للإتصال بنا إضغط في هذه الوصلة

أجوبة الشيخ في منبر التوحيد

كتب الشيخ في المنبر

آخر التدوينات

المواضيع الأكثر قراءة

احصائيات المدونة

أحوال الطقس في مدينة عنابة

******************************** الجديد ***********************************


مفهوم " الفئة الباغية "
وقفة مع آيتي " 9 – 10 " من سورة الحجرات



أريد من خلال هذا الطّرح معالجة مفهوم حُرّف عن مدلوله الشّرعيّ ، و هو :" الفئة الباغية " ، و كنتُ في مقال سابق قد تطرّقتُ إلى مفهوم آخر له علاقة بما نحن في صدد معالجته في هذا المقال ، أقصد مدلول كلمة وليّ الأمر ، و إنتيهتُ فيه إلى أنّ وليّ الأمر لا يُطلق إلاّ على الحاكم العادل المُحكّم لشرع الله تعالى ، و من حكّم القوانين الوضعية المُخالفة لما أنزل الله لا يُطلق عليه وليّ الأمر بالمفهوم الشرعي . 

أمّا كلمة الفئة الباغية فممّا ترسّخ في عقول النّاس اليوم بل قبل اليوم أنّ الفئة الباغية هي كلّ فئة خرجت على الحاكم أيّ كان هذا الحاكم ، و أيّ كانت هذه الفئة ، و أيّ كانت مطالبها. و منشأ هذا الفهم الخاطئ لكلمة الفئة الباغية المُخالف لمدلول النصوص الشرعية هو لمّا إعتقدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع عليّ رضي الله عنه ضدّ مخالفيه ، جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على الحاكم بتأويل سائغ ، حتّى صار بعضهم فيمن يتولّى أمور المسلمين من حكام و أمراء بل و فقهاء و غيرهم هم من لا يجوز مُنازعة ولايتهم مطلقا ، ثمّ جعلوا المقاتلين لهم هم البغاة ، لا يفرّقون بين حاكم و حاكم ، و لا بين مُقاتل و مُقاتل ، بل و لا بين الغاية من القتال و قتال .

قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 2/4/277 ) : و لهذا نجد هذا الصنف من الفقهاء يدخلون في كثير من أهواء الملوك و الحكام ، و يأمرون بالقتال معهم لأعدائهم ، بناء على أنّهم أهل العدل و أولئك بغاة ، و هم في ذلك بمنزلة المتعصّبين لبعض أئمّة العلم أو أئمّة الكلام أو أئمّة المشيخة على نظرائهم مدّعين أنّ الحقّ معهم ، أو أنّهم أرجح بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير لا بإجتهاد ، و هذا كثير في علماء الأمّة و عبّادها و أمرائها و أجنادها ، و هو البأس الّذي لم يرفع بينهم ، فنسأل الله العدل ، فإنّه لا حول و لا قوّة إلاّ بالله . إنتهى

و حتّى نردّ هذه الكلمة أو هذا المصطلح إلى مفهومه الشرعيّ الّذي دلّت عليه النصوص ، نقف مع آية من آيات الله المبيّنة للمسألة أحسن بيان .

قال الله تعالى : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ".
يأمر الله تعالى المؤمنين إذ الخطاب موجّه إليهم أن يصلحوا بين الفئات المؤمنة إن وقع بينها قتال نتيجة البغي بينهم كما أمر سبحانه المؤمنين بمقاتلة الفئة الباغية المعرضة عن ردّ الأمور المتنازع عليها إلى شرع الله تعالى . و في الآيات مسائل :


/ المسألة الأولى : أنّ الإقتتال بين فئات المؤمنة حاصل سواء بين الحاكم و الرعية أو بين فئات من الرعية بعضهم ضدّ بعض . و الطائفة في قوله سبحانه : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا " : تُطلق في اللّغة على الواحد من العدد ، و على ما لا يحصره عدد . و هذا الإقتتال الحاصل بين المؤمنين له صور عديدة ، و حسب كلّ صورة من صوره يتنزل الحكم الشرعيّ عليه ، حيث ثمّة قتال بين المؤمنين مأذون فيه ، و قتال ممنوع منه ، فما كان لإعلاء كلمة الله تعالى و ما يعود بالنفع على عموم الأمّة فهو مأذون فيه كقتال الممانعين عن أداء حكم شرعيّ كمانعي الزكاة أيّام خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، و كقتال البغاة كما سيأتي ، أمّا ما كان من أجل الدنيا و الجاه فهذا هو الممنوع المحرّم و هو قتال الفتنة ، و في هذا ما رواه مسلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه و سلّم قال : " لا تذهب الدنيا حتّى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ، و لا المقتول فيم قُتل . فقيل : كيف يكون ذلك ؟. قال : الهرج ، القاتل و المقتول في النار . و أخرج مسلم من طريق أبي هريرة مرفوعا : " من قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية ."قال إبن جرير ، ونقله الشوكاني في تفسيره مُقرّا له :لو كان الواجب في كلّ اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حق ولا أبطل باطل ولوجد أهل النفاق والفجور سببا إلى استحلال كلّ ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم ولكف المسلمين أيديهم عنهم وذلك مخالف لقوله صلّى الله عليه وسلم :" خذوا على أيدي سفهائكم " . إنتهى 


/ المسألة الثانية : قوله تعالى : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " يتضمّن النهي عن مثل هذا الإقتتال ، و يستلزم منه النهي عن كلّ ما يؤدّي إليه.


/ المسألة الثالثة: هذا الإقتتال بين فئات المؤمنة هو نتاج البغي بينهم ، و البغي في اللغة هو الطلب ، و وقع التعبير به هاهنا عمّن يبغي ما لا ينبغي ، على عادة اللغة في تخصيصه ببعض متعلّقاته ؛ و من أعظم أنواع البغي : الظلم و القهر و إبخاس الناس أشياءهم ، و ليس من يُطالب بتحكيم شرع الله تعالى بباغي ، بل الباغي من يسعى في تعطيل أحكام الشرع ، قال إبن حزم في كتابه المحلّى بالآثار ( 11 / 335 ): من دعا إلى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر و إظهار القرآن و السنن و الحكم بالعدل فهذا ليس باغيا بل الباغي من خالفه . إنتهى . 


 / المسألة الرابعة : الإقتتال بين المؤمنين لا يسلب منهم وصف الإيمان و لا يخرجهم سوء فعلهم عن دائرة الإسلام ، إلاّ إذا إنضمّ مع هذا الإقتتال بُغية تعطيل حكم من أحكام شريعة الإسلام . و ممّا يشهد لهذا ما رواه البخاري في صحيحه تحت باب : " و إن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينهما " . فسمّاهم المؤمنين . من طريقالأحنف بن قيس قال : خرجت بسلاحي ليالي الفتنة ( و في رواية : ذهبت لأنصر هذا الرجل ) ، فإستقبلني ( و في رواية : فلقيني ) أبو بكرة ، فقال : أين تريد ؟ . قلت : أريد نصرة إبن عمّ رسول لله صلّى الله عليه و سلّم ( و في رواية : أنصر هذا الرجل) . قال : ( إرجع فإنّي سمعت رسول الله ): قال رسول الله : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما في النار ( و في رواية : إذا إلتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار ) . قيل ( و في رواية : فقلت : يا رسول الله ) : فهذا القاتل ، فما بال المقتول ؟. قال : إنّه أراد قتل صاحبه ( و في رواية : إنّه كان حريصا على قتل صاحبه ) . الشاهد :قوله : " فالقاتل و المقتول في النار" ، مع قوله :" إذا تواجه المسلمان بسيفيهما" فسمّاهم مسلمين مع شهادته لهم بالنار ، دلّ على أنّ هذا الذنب أثّر في إيمانهم و إسلامهم ، و هذا ردّ على المرجئة القائلين بأنّ الذنوب لا تؤثر في إيمان المرء .


/ المسألة الخامسة : لا يجوز إقرار الفئات المؤمنة على صراعهم و إقتتالهم فيما بينهم إلاّ إذا كان من نوع القتال المأذون فيه من أحد الأطراف .


/ المسألة السادسة : وجوب الإصلاح بين الفئات المتنازعة ، روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : أنّ أهل قباء إقتتلوا حتّى تراموا بالحجارة ، فأُخبر رسول الله صلّى الله عليه و سلّم بذلك ، فقال:" إذهبوا بنا نُصلح بينهم " . و عليه لا بدّ من أهل الحلّ و العقد من خيار هذه الأمّة أن يُشكّلوا لجنة لفكّ النزاع بين المؤمنين و ذلك بإلزامهم الرضوخ إلى أحكام ربّ العالمين ، قال الله تعالى : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)" من سورة الأحزاب. 


/ المسألة السابعة : الإصلاح لابدّ أن يكون بالعدل ، و لهذا قيّد الله الصلح بالعدل في قوله : " فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ " ، و لا عدل إلاّ في التحاكم إلى شرع الله تعالى ، فقد يكون ثمّة صلح لكن ليس على أساس العدل بل على الظلم و الحيف على أحد الخصوم الّذي قد يكون سببه مراعاة إعتبارات ما أنزل الله بها من سلطان كأن يُحابى الحاكم ، أو صاحب الجاه و السلطان ، أو أصحاب الأموال و الثروات ، و ليس من العدل أن يفرض طرف على طرف شروطه و إملاءاته و يدّعي أنّ ذلك هو الصّلح .


/ المسألة الثامنة : من رفض الإصلاح على أساس التحاكم إلى شرع الله كان هو الباغي على الحقيقة .قال إبن جرير : يقول تعالى ذكره : وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا ، فأصلحوا أيّها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى ) يقول : فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له ، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلا بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) يقول : فقاتلوا التي تعتدي ، وتأبى الإجابة إلى حكم الله( حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) يقول : حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه( فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ) يقول : فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إيّاهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه ، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل : يعني بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه. إنتهى . قال الله تعالى : " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)" من سورة النساء 


/ المسألة التاسعة : وجوب قتال الفئة الباغية سواء بغت بالتّعدي في القتال ، أو بالعدول عن التحاكم إلى شرع الله تعالى حتّى ترضخ إلى شرع الله تعالى ، ففي قوله سبحانه : " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " دلالة واضحة على ما بيّنته ، قال الشيخ طاهر بن عاشور في تفسيره لهذه الآية : جعل الفَيْء إلى أمر الله غاية للمقاتلة ، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله ، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكفّ عن الظلم ، أي حتّى تقلع عن بغيها . إنتهى
فالغاية من قتال الفئة الباغية – و لم يُفرق ربّنا في الآية بين إذا ما كانت الفئة الباغية حاكما أو محكوما - هو أن ترجع إلى حكم الله تعالى لا إلى أحكام ما أنزل الله بها من سلطان فرضها أقوام على هذه الأمّة . 


 / المسألة العاشرة :الأخوّة الّتي أثبتها الله للمؤمنين بعضهم لبعض في قوله : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " ، هي أخوّة الدّين لا النسب ، إذ الأخوّة نوعان : الأخوّة النسبية و الأخوّة الدّينية ، و الأخوّة الدّينية أقوى من الأخوّة النسبية ، إذ كلّ الروابط تتلاشى سواء كانت رابطة النسبية أو العصبية أو القومية أو القطرية أمام رابطة الدّينية ، و تأمّل قوله سبحانه : " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) " من سورة المجادلة ففي هذه الآية أوضح الله سبحانه أن لا عبرة بالرابطة النسبية عند إصطدامها بالشريعة الإسلامية . 
و قال تعالى : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً " الآية 103 من سورة آل عمرا ن ، و في هذه الآية إثبات للرابطة الدينية القائمة على نعمة الإسلام . 


/ المسألة الحادية عشر : أنّ رحمة الله تعالى منوطة بتقواه و الإصلاح بين المؤمنين على أساس التحاكم إلى شرع الله تعالى ، حيث الآية دلّت أنّ عدم قيام بهذا الحق و هو الإصلاح بين المؤمنين على وفق شرع الله تعالى من أعظم حواجب رحمة الله ربّ العالمين .
بهذا أكون بعون الله أوضحتُ أنّ الفئة الباغية ليست فقط هي الّتي خرجت على الحاكم العادل بتأويل سائغ ، بل الفئة الباغية كذلك هي الّتي بغت عن أحكام الله و شرعه و قد يؤول بغيها إلى الكفر .
و الله أعلى و أعلم . أبو حفص سفيان الجزائري.


إضغط هنا لوصول سريع للموضوع

كتب الشيخ المطبوعة



القرآن الكريم

القائمة البريدية

ضع بريدك الالكتروني:

مدعوم من فييد برنر

ترجمة المدونة إلى عدت لغات