للإتصال بنا إضغط في هذه الوصلة

أجوبة الشيخ في منبر التوحيد

كتب الشيخ في المنبر

آخر التدوينات

المواضيع الأكثر قراءة

احصائيات المدونة

أحوال الطقس في مدينة عنابة

******************************** الجديد ***********************************


الأمن والأمان في تحكيم شريعة الإسلام


الكاتب : أبو حفص الجزائري تاريخ الإضافة: 2011-02-19



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله أنّ العاقبة للمتّقين، وأن لا عدوان إلاّ على الظّالمين .

و بعد: إنّ من أساسيات السياسات الموضوعة هو تحقيق أمن الشعوب الّتي تسيّرها وتحكمها، هذا ما يفترض أن يُركز عليه الحكام أو الساسة الرّاغبين في الحكم، تحقيق الأمن بمفهومه الشمولي، الأمن الاجتماعي والأمن السياسي والأمن الاقتصادي وما يتفرّع منها جميعا، وهذا لا يقوم إلاّ على أساس العدل، فإذا وُجد العدل وُجد الأمن، وإذا فُقد فُقد، أمّا في عالمنا الإسلامي، فأساسيات السياسات الموضوعة بل والمفروضة على أمّتنا هو إرضاء الغرب وحفظ مصالحه وأمنه على حساب أمن أمّتنا المسلمة ومصالحها، مستغلّين هذه الإستراتيجية في خدمة أمورهم الشخصية فشاع بذلك الفساد في كلّ مناحي الحياة،


فكلّما ازدادت وتيرة رعاية مصالح الغرب في بلداننا ازدادت معها وتيرة فساد الأنظمة، وعليه تُفرض السياسات علينا على وفق هذه الأساسيات معطّلين بذلك شريعة الإسلام شريعة العدل والمساواة، وهذا ما أنتج من فقدان الأمن الاجتماعي والأمن السياسي، والأمن الاقتصادي في أوطاننا في ظلّ هذه السياسات الّتي تحكمنا بالقوّة .

إنّنا كأمّة مسلمة مُتعبّدون في هذه الحياة الدّنيا بتحقيق العبودية لله تعالى الّتي ما خُلقنا إلاّ لها، قال الله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) " سورة الذّاريات .
و هذه العبودية قائمة على الخضوع إلى شرع الله تعالى الّذي رضيه لنا ربّنا جلّ وعلا، فمن ابتغى شريعة غير شريعة الله فليس فقط أنّها مرفوضة غير مقبولة بل توعّد الله لهؤلاء المعرضين عن شريعته بالخسران، قال تعالى: " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) " سورة آل عمران .

هذه العبودية المفروضة من ربّ البريّة على هذه البشرية لا تختص بجانب العبادات الفردية كالصلاة والصيّام، بل وبالعبادات الجماعية كالجهاد في سبيل الله، وكذلك في المسائل القانونية والتشريعية بأن لا يُحكم إلاّ شرع الله تعالى .

وبقدر تحقيق هذه العبودية ولاسيما تحكيم شرع الله تعالى يتحقق الأمن بذاك الشمول.

حتّى أفصّل هذا الكلام المجمل أقف مع آيات من آيات الرحمن نستخلص منها ما يجب معرفته في هذه المرحلة .

قال سبحانه مبيّنا ما جرى لأبي الأنبياء سيّدنا إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام: " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) " سورة الأنعام .

و قبل استخلاص هذه الأحكام من هذه الآيات لابدّ أن يستحضر القارئ أنّ سورة الأنعام مكيّة، أي نزلت في مرحلة الاستضعاف، وهي المرحلة الّتي يستند إليها كثير من الّذين باعوا دينهم أو ميّعوا مبادئ دينهم فيما ذهبوا إليه من سلوك بنيّات الطريق، هذه الآيات توضّح السلوك الأمثل الّذي يجب أن يسلكه الموحّد فضلا عن الدعاة والعلماء الّذين يُنسبون إلى دعوة التوحيد والسنّة .

/ قول إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام لقومه: " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ "، هو إعلان منه بكلّ وضوح وصراحة البراءة من الشّرك وأهله والمتمثّل يومها في عبادة الأصنام والأوثان من دون الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) " .

فقوله: " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " أي أخلصتُ ديني وعبادتي للّذي خلق السماوات والأرض .

" حَنِيفاً" أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشّرك إلى التوحيد .

" وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ " هو تأكيد لبراءته من الشرك وأهله .

و هكذا يجب أن يُعلن الموحّد براءته من الشرك وأهله بكلّ وضوح، وأساس الشرك في زماننا هي هذه القوانين الوضعية مصدر كلّ بلاء على أمّتنا، ولا تتمّ هذه البراءة إلاّ بعد البراءة من الحكام الّذين يشرّعون هذه القوانين ويُحكّمونها على أمّتنا بقوّة الحديد والنّار مُنحّين بذلك شريعة الرحمن .

فلا يستقيم توحيد المرء مع عدم براءته من هذا الشرك .

قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى في "سبيل النجاة والفكاك" في تفسيره لقوله
">تعالى: " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ " الآية 4 من سورة الممتحنة: وهاهنا نكتة بديعة - في قوله تعالى: " إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " - وهي أنّ الله تعالى قدّم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله لأنّ الأوّل أهمّ من الثاني، فإنّه إن تبرأ من الأوثان ولم يتبرأ ممّن عبدها لا يكون آتياً بالواجب عليه، وأمّا إذا تبرأ من المشركين فإنّ هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم، وكذا قوله: " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله " [مريم: 48] الآية، فقدّم اعتزالهم على اعتزال ما يدعون من دون الله. وكذا قوله: " فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله " [مريم: 49]، وقوله: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله " [الكهف: 16]، فعليك بهذه النكتة فإنّها تفتح لك باباً إلى عداوة أعداء الله، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك ولكنّه لا يعادي أهله فلا يكون مسلماً بذلك إذ ترك دين جميع المرسلين . انتهى

و هذا الّذي أعلنه إبراهيم لقومه هو عين ما أمر الله به نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يُعلنه لقومه، قال تعالى من نفس السورة، سورة الأنعام الآية: 56 - 57: " قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) " .

فعلى الموحّد أن يتأمّل إلى أمر الله تعالى لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال له أمرا: " قُلْ "، وهذا فيه أمر بإعلان براءته من الشرك وأهله .

فأين هم أتباع السنّة من ذلك، فالسنّة ليست مجرد حفظ متون الأحاديث، أو تحقيق الأحاديث تصحيحا وتضعيفا، أو التخصص في علم الحديث، بل السنّة هو التجسيد العملي للتوحيد ؟.

/ قال تعالى: " وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ "، بعدما أعلن إبراهيم براءته من شرك قومه، وما ذهب إليه من إخلاص عبوديته لله تعالى، حاولوا صدّه عن سبيل الله تعالى، بكلّ وسيلة متاحة لهم، وهكذا شأن كلّ مُعرض عن تحقيق التوحيد وعلى رأسهم في هذا العصر الأنظمة المستبدّة، فهم يخافون من دعوة إلى التوحيد الخالص، وإلى محض السنّة، ولهذا يُحاولون كما فضحهم الله تعالى: " ودّوا لو تدهن فيدهنون " سورة القلم وهي مكيّة الآية 9 .

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه الماتع " ملّة إبراهيم ( ص: 66 ): فهم يتمنّون أن يسلك الدّعاة غيره من السبل المعوجّة وينحرفوا عن دعوة الأنبياء الصلبة المستقيمة.. ولا يزالون يخطّطون لأجل حرف الدعاة عن هذا الصراط المستقيم.. إلى سبل فيها سكوت عن كثير من باطلهم، تُرضي خواطرهم.. أو تلتقي معهم في بعض أمورهم.. هكذا.. حتى تموت الدعوة وتتميع قضيتها وينحرف دعاتها عن خطها الواضح البيّن المستقيم فالطّغاة يعلمون أن أول التقهقر خطوة إلى الوراء.. ثم تعقب هذه الخطوة، خطوات وخطوات.. ينسى معها الدعاة منهج الدعوة الأصيل.. ويحصل يقيناً من هذا الانحراف.. التقاء مع أهل الباطل في كثير من باطلهم أو بعضه.. وذلك غاية ما يتمنونه ابتداء.. لذلك فإنهم إن يروا من هؤلاء الدعاة تنازلاً أو تقهقراً.. أظهروا لهم الرضى عنهم وعن دعواتهم، وقربوهم وأثنوا على جهودهم وأظهروا لهم الود والحب.. قال تعالى: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا " [الإسراء: 73].

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية بعد أن ذكر محاولات المشركين لمساومة الرسول صلى الله عليه وسلم على كثير من أمور دينه ودعوته ومن ذلك: ترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم إلى غير ذلك.. يقول: "هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله، وهي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها. ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثير. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً. فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو بضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة.. لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء! وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء، فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة، وارتفاع السعر ينتهيان لكسب أصحاب السلطان إلى صفها، هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصر الدعوة. والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم.. ومتى دبّت الهزيمة في أعماق السريرة، فلن تنقلب الهزيمة نصراً!" . انتهى

فقد بيّن الله عز وجل لنا هذه المخطّطات، وكشف لنا تلك الألاعيب، وحذّرنا منها.. وأعطانا الحل والعلاج.. وأرشدنا إلى الطريق الصحيح، فقال مباشرة قبل قوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " [القلم: 9]، قال: " فلا تطعْ المكذّبين " [القلم: 8].

لا تطعهم.. ولا تركن إليهم، ولا تقبل أنصاف حلولهم.. فإن ربك قد أعطاك الدين الحق، ودلّك على الصراط المستقيم، وهداك إلى ملة إبراهيم.

و على هذا قال إبراهيم عليه السّلام:

/ قال: " قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ " أي أتجادلونني في أمر الله تعالى، بأنّه هو المعبود بحقّ وحده سبحانه وتعالى، المستحق للعبودية الكاملة التّامة ومن ضمنها عبودية الخضوع لشرعه وحده، بأنّ الحكم لله لا شريك له، أتجادلونني وقد بصّرني وهداني إلى الحقّ ؟، فكيف ألتفتُ إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة وأنا على بيّنة من أمر الله تعالى ؟، فلا جدوى لمحاجَّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ .

و هكذا يجب أن يُعلنها كلّ موحد صادق في توحيده إذا ما ابتُلي بأيّ نوع من الابتلاء بأن يستعين بالله ويتوكّل عليه، ويسأل الله الثبات على التوحيد، فالابتلاء هو تمحيص من الله ليعلم الصادق من الكاذب، قال الله تعالى: " الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) " سورة العنكبوت .

/ قال: " وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ " . فنفي خوفه عليه الصّلاة والسّلام من معبوداتهم يؤذن أنّهم خوّفوه وهدّدوه بهذه الآلهة، وهكذا شأن كلّ مشرك لاسيما مشركو التشريع الّذين يهدّدون الموحّدين بقوانينهم الجائرة ومحاكماتهم الظّالمة .

" إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً " فأوكل عليه الصّلاة والسّلام حمايته ورعايته إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا الاستثناء هو استثناء منقطع، أي لا يضرّ ولا ينفع إلاّ الله تعالى، فهو الركون إلى رعاية الله وحفظه .

و هكذا يجب أن يكون توحيد المسلم أن يركن إلى رعاية الله إذا التزم بما أمر الله تعالى، روى الترمذي في جامعه، وقال: حديث حسن صحيح، عـن أبي العـباس عـبد الله بن عـباس رضي الله عـنهما، قــال: كـنت خـلـف النبي صلي الله عـليه وسلم يـوما، فـقـال: " يـا غـلام ! إنّي أعلمك كــلمات: احـفـظ الله يـحـفـظـك، احـفـظ الله تجده تجاهـك، إذا سـألت فـاسأل الله، وإذا اسـتعـنت فـاسـتـعـن بالله، واعـلم أنّ الأمّـة لـو اجـتمـعـت عـلى أن يـنـفـعـوك بشيء لم يـنـفـعـوك إلاّ بشيء قـد كـتـبـه الله لك، وإن اجتمعـوا عـلى أن يـضـروك بشيء لـم يـضـروك إلاّ بشيء قـد كـتـبـه الله عـلـيـك؛ رفـعـت الأقــلام، وجـفـت الـصـحـف " .

و حين يصيبنا بلاء فهو بمشيئة الله تعالى، فهو النافع والضار على الحقيقة، فالبلاء هو تمحيص في العاجل وتمكين في الآجل، ولهذا قال سبحانه بعد ذلك:

" وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ " أي أحاط علمه سبحانه بجميع الأشياء فلا تخفى عليه خافية، أفلا تعتبرون فيما بيّنته لكم أنّ هذه المعبودات سواء تلك الّتي عُبدت من دون الله، أو تلك الّتي تُشرع من دون الله تعالى كلّ هذه المعبودات باطلة، أفلا تنزجروا عن عبادتها والخضوع لها .

/ قال: " وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "

فقوله: " وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ " تأكيد منه على عدم خوفه ممّا أشركوا به الله تعالى أيّ كانت هذه المعبودات، " ثمّ بيّن لهم أنّ عدم خوفه من آلهتهم أقلّ عجبا من عدم خوفهم هم من الله تعالى، وهذا يؤذن بأنّ قومه كانوا يعرفون الله تعالى، وأنّهم أشركوا معه في الإلهية غيره، فلذلك احتجّ عليهم بأنّهم أشركوا بربّهم المعتَرف به دون أن يُنَزّل عليهم سلطاناً بذلك " . قاله العلامة طاهر بن عاشور رحمه الله تعالى .

و هكذا مخالفتنا بل وكُفرنا بهذه القوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله تعالى أقلّ عجبا من عدم خوف المشرعين من دون الله والمعطّلين لحكم الله من الله تعالى العزيز الجبار المتكبّر، وهؤلاء المشرّعين من دون الله يعلمون أنّ تشريعاتهم ناقصة غير كاملة، بل ومناقضة لشريعة الحكيم الخبير .

و قوله: " أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً " أي ليس عندكم حجة وبرهان من الله على صحّة ما ذهبتم إليه، بل هو محض إتباع الهوى، أو تقليد الغير فيما لا يجوز فيه التقليد، أو هو إتباع لهوى الغير، وقد حذّر الله من ذلك فقال: " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) " سورة المائدة .

و على هذا قال: " فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "، فهما فريقان لا ثالث لهما فريق خضع لشرع الله وفريق أعرض عن شرعه، فأيّهما أحقّ بالأمن ؟

الجواب:

/ قال الله تعالى: " الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، أي الّذين ءامنوا وحققوا التوحيد ولم يخالطوا إيمانهم بكفر، وتوحيدهم بشرك لا في عبادة ولا في طاعة ولا في اتّجاه، حصل لهم الأمن في الدّنيا والآخرة، والهداية إلى الصراط المستقيم، هداية إلى ما يعود نفعه عليهم في الدنيا والآخرة ؛ والمراد بالظلم في هذه الآية هو الشّرك كما ثبت عن النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

لما نزلت هذه الآية: " الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " . شقّ ذلك على أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس كما تظنّون، إنّما هو كما قال لقمان لابنه: " يا بنيّ لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم " ".

فبقدر تحقق كمال التوحيد حصل كمال الأمن، مع كمال الهداية، وكلّما نقص كمال التوحيد، نقص معه كمال الأمن وكمال الهداية، قال الإمام ابن القيّم: فإنّ الظلم التّام هو الشرك، الّذي هو وضع العبادة في غير موضعها، والأمن والهدى المطلق: هما الأمن في الدّنيا والآخرة، والهدى إلى الصّراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم ( وهي دون الشرك ) مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمّله، فالمطلق للمطلق، والحصّة للحصّة . انتهى

فمنظومة الأمن لن تتحقق إلاّ في ظلّ شريعة الإسلام، لا في تحكيم قوانين الشرق الاشتراكية، ولا في تحكيم قوانين الغرب الليبرالية .

يتجلّى للقارئ هذه الحقيقة لمّا يعلم أنّ من مقاصد ديننا هو الحفاظ على الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال، وهذه هي ركائز الأمن، أمّا أساسه الّذي يقوم عليه هي تحقيق العدالة الاجتماعية، قال عمير بن سعد رضي الله عنه والي حمص في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان وليست شدة السلطان قتلا بالسيف أو ضربا بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل" .

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد ولاته: " فقد فهمت كتابك وما ذكرت أنّ مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصّنها بالعدل ونقّ طرقها من الظلم فإنّه معمرها، والسلام" .

فلا شريعة على الإطلاق من يكفل هذه العدالة كما كفلتها شريعة ربّنا جلّ وعلا،

قال تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) " سورة المائدة، وقال: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " الآية 96 سورة العراف .

أمّا منظومة الأمن في القوانين الوضعية ولاسيما تلك الّتي تحكم امّتنا فهي قائمة على ترهيب المواطن والتضييق عليه وإذلاله، وذلك بالانشغال بزيادة عدد الشّرط، لمحافظة على الحكام وقوانينهم، لا على الإسلام والمسلمين كما هو معلوم ومشاهد، وإنّ زيادة من عدد الشّرط علامة على ضعف الدّول، وفشو الفساد فيها والباطل، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

ثمّ في سؤال أصحاب رسول صلّى الله عليه وسلّم رسول الله عليه الصّلاة والسّلام عن حقيقة الظلم الواردة في الآية، نكتة بديعة تطرّق إليها الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، فقال: وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا القرآن يتنزّل عليهم غضّا، وتشربه نفوسهم، وتعيش به وله، وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته، في جدّ ووعيّ وفي التزام عجيب، تأخذنا روعته وتبهرنا جدّيته، وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من النّاس، وكيف صنع الله بهذا الرّهط ما صنع من الخوارق في ربع قرن من الزمان ...

بعدما أورد رحمه الله تعالى آثار الواردة في سؤال الأصحاب لرسول الله عليه الصّلاة والسّلام عن الظلم، قال: فهذه الآثار تصوّر لنا كيف كان حسّ هذا الرّهط الكريم بهذا القرآن الكريم، كيف كانت جدّية وقعه في نفوسهم، كيف كانوا يتلقّونه وهم يشعرون أنّه أوامر مباشرة للتنفيذ، وتقريرات حاسمة للطّاعة، وأحكام نهائية للنفاذ، وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أنّ هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب، وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأيّ درجة من درجات التقصير، والتفاوت بين عملهم ومستوى التكليف، حتّى يأتيهم من الله ورسوله التيسير . انتهى

/ قال تعالى: " وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ " . والحجة المقصودة في هذه الآية تشمل جميع احتجاجاته عليه الصّلاة والسّلام عليهم، ولاسيما كما قال مجاهد هو قوله: " وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "، فكانت هذه الحجة وغيرها سبب رفعة إبراهيم على قومه فمن يُخلص نفسه لله لا يخاف من دونه، وأمّا من أشرك بالله فهو أحقّ بالمخافة .

و قوله: " نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ "، فمن سلك ملّة إبراهيم، رفع الله درجاته كما رفعها لإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، فملّة إبراهيم هو التجسيد العمليّ للتوحيد، فلا يكون المرء عالما بالتوحيد لمجرّد محفوظاته، ودراساته وشهاداته في مادّة التوحيد، بل يكون المرء عالما بالتوحيد إذا جسد التوحيد في الميدان الحياتي له .

" إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ " . أي حكيم في أقواله وأفعاله، عليم بمن يضلّه وبمن يهديه .

فعلى الأمّة جميعا، إلى كلّ من ءامن بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلّم رسولا، أن يسعى كلّ في موقعه وعلى حسب قدرته في إعادة الحكم إلى شرع الله، وإلى تعطيل القوانين الوضعية المخالفة لدين الله تعالى، هذا الحكم الشرعي هو فرض عين على كلّ مسلم، فلا تسمعوا إلى تدليس المدلّسين الّذين باعوا دينهم بمتاع الدنيا قليل وعلى رأسهم من تبنّى منهج الإرجاء في ثوب السلفية، ومنهج السلف الصالح منهم براء .

مواضيع ذات الصّلة كتبتها في وقت سابق أرجو من يقرأ هذا المقال أن يقرأها كذلك، وهي:

/ أساس الوحدة الشرعية .
/ مدلول وليّ الأمر .
/ مفهوم الفئة الباغية .


اللّهم وفقنا لما تحبه وترضاه .


أبو حفص سفيان الجزائري
عنابة: 27 صفر 1432 هـ // 01 / 02 / 2011 م


إضغط هنا لوصول سريع للموضوع

كتب الشيخ المطبوعة



القرآن الكريم

القائمة البريدية

ضع بريدك الالكتروني:

مدعوم من فييد برنر

ترجمة المدونة إلى عدت لغات